بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا
(3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا
(5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (
تفســــير سورة الزلزله:-
نَّها تَتَحَدَّثُ عن يوم
القيامة وما يَجْرِي فيه من أهوال وعظائم، تبدأ هذه الأهوال بزلزلة الأرض؛
أي: اهتزازها واضطرابِها. والزلازل: هي أشدُّ ما يشهد العالم من حركة، وقد
شوهِدَتْ زلازلُ حدثت في أقلَّ من ربع ثانية فأطاحت جسورًا، وحطمت قصورًا،
وأهلكت بشرًا كثيرًا، ودمرت مدنًا كاملة[1]·
ومع هذا فإنَّ زِلزالَ الدنيا ليس شيئًا يذكر عند زلزال الآخرة الذي وصف بالعظمة دلالة على قوته وشدة دماره: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
[البقرة: 1]. عبّر عن ذلك بالشيء العظيم إيذانًا بأن العقول قاصرة عن
إدراك كُنْهِهَا، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام[2]·
إنها زلزلة مهما أُطنب في
وصفها، وذكر أجزائها فإن العقل لا يستطيع بلوغ العظمة التي وصفت بها، وإلا
فما ظَنُّكُمْ بزلزلة تُسَيَّر على إثرها الجبال، وتُسَجَّر البحار، وتنفطر
السماء، وتنتثر الكواكب: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقَّة: 14]، {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} {الواقعة: 4 - 6}.هذه الجبال الرَّواسي الصِّلاب هل يَستَوْعِبُ العَقْلُ القاصِرُ أَنَّها ستصبح من شدة هذه الزلزلة صوفًا يتطاير حتى يتلاشَى: {وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالعِهْنِ المَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبحمْدِكَ ما أعظم قدرتَكَ! وما أشدَّ قُوَّتَكَ! وما أَضْعَفَ خلقك!
ومن جراء هذه الزلزلة العنيفة تقذف الأرض مكنوناتها، وتخرج ما في بطنها، من مُخَبَّأٍ وَمَدْفُونٍ، من إنس وجِنٍّ وَكُنُوزٍ: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلزلة:
2] فمن أثقالها: كنوزها والأمواتُ في داخلها[3]، قال أهل اللغة: إذا كان
الميت في بطن الأرض فهو ثقلٌ لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها، وسمي الجن
والإنس بالثقلين؛ لأن الأرض تثقل بهم إذا كانوا في بطنها، ويثقلون عليها
إذا كانوا فوقها[4]، وهذه الآية مثل قوله - تعالى -: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3- 4] وجاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل
فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق
فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئًا))؛ أخرجه مسلم[5]·ولأجل
هذه الزلزلة وما حدث من جرائها من تحريك شديد، وإزعاج عنيف؛ بحيث زالت
الأشياء من مقارِّها، وخرجت عن مراكزها[6]، وألقت الأرض ما في داخلها، كان
ذلك محلاً للسؤال والاستفهام عن هذا الحدث العظيم: {وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزَّلزلة: 3]؛ أي: أيُّ شيء عرض لها، يستنكر ما حدث لها، فأمَّا الكفار فيقولون: {وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 25] فيجيبهم المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ} [يس:52][7].
وحيث إن نظام العالم قد تغير
بتلك الزلزلة فإن الخلق يُقبلون على مرحلة جديدة تنطق فيها الجمادات، وتشهد
الأركان. إنها مرحلة الحساب، والسؤال والجواب، والنعيم والعذاب. ومن جملة
الشهداء: الأرض؛ إذ تنطق وتشهد[8]، {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلزلة:
4 – 5] يأمرها ربنا أن تخبر عمّا عُمِل عليها فلا تَعْصِي أمره؛ بل تشهد
على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر. قال ابن عباس - رضي الله
عنهما -: "قال لها ربها: قولي، فقالت"؛ وخرَّج الإمام أحمد والترمذي من
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: ((أتدرون ما أخبارها))؟ قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: ((فإن
أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا
في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها))؛ قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح[9]· {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}
[الزَّلزلة: 6]؛ أي: ينصرفون فرقًا متفاوتين بحسب طبقاتهم، منهم: بيضُ
الوجوه آمنين، ومنهم: سود الوجوه فزعين، كل جنس مع جنسه، يصدرون من كل
ناحية[10]. ليس معهم ما كان يميزهم على الناس في الدنيا كما قال الله -
تعالى -: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ
ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ
مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 49]، وقال – سبحانه -: {وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ
آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ *
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ
الآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الرُّوم: 14- 16].يصدرون ليرى كل واحد منهم ما عمل في هذه الدنيا من خير وشر: {إِنَّا
أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا
قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النَّبأ: 40]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة: 7- 8]. إنه عدل ربنا - تبارَكَ وَتَعالى - حيث يجد العبد جزاء الذرة: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
{وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا
بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]،
{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].إنه
كرمٌ واسعٌ، وعَدْلٌ تامٌّ، من ذي الجلال والإكرام. أتدرون - رحمكم الله -
ما الذَّرَّةُ التي لا يضيع جزاؤها؟ أدخل ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -
يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، وقال:"كل واحد من هؤلاء مثقال
ذرة"[11] ·
وجاء العلم الحديث؛ ليسمى هذا
العصر بعصر الذرة؛ لأن الإنسان اكتشفها، واستطاع أن يفتتها إلى جزيئات
لتصبح الذرة الواحدة ذرات، وفرح الإنسان بما أوتي من علم، وما وصل إليه من
تقدم واكتشاف، وزعم من زعم من طغاة بني آدم أن القرآن وقف عند الذرة، وأنَّ
الإنسانَ تجاوز ذلك فاستطاع أن يفتت هذه الذرة؛ وما علم من قال ذلك أنه
يَسْتدل بعلمه على جهله، وبقوله على قلة عقله؛ حيث إن القرآن ذكر ما هو أقل
من الذَّرَّةِ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ
مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ
ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
ولو لم يُذْكَرْ ذلك في
القرآن لكان عند المؤمن الحق من الإيمان واليقين بقدرة الله - تعالى -
وعظمته ما يرد شبهات أهل الزيغ والضلال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلاق:12].بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم··